المعرفة والتاريختاريخ وحضارات

السلالات التي صنعت المغرب

من الأدارسة إلى العلويين: ملحمة سياسية شكّلت ملامح المغرب

في خضم منطقة عرفت منذ قرون تقلبات حضارية وسياسية عميقة، يبرز المغرب كواحد من البلدان القليلة التي نجحت في الحفاظ على هوية سياسية متماسكة عبر العصور، مع قدرة نادرة على التكيف والتجدد. فمنذ أن وطئت قدم إدريس الأول أرض وليلي في أواخر القرن الثامن الميلادي، بدأ بناء كيان سياسي مستقل يترسخ تدريجيًا ليشكل ملامح دولة مغربية ذات طابع فريد، تتجدد هويتها من جيل إلى آخر، دون أن تفقد جوهرها التاريخي والديني والثقافي.


1. الأدارسة: النواة الأولى لدولة مغربية مستقلة

سياق الهروب واللجوء إلى الغرب الإسلامي

في سنة 788م، وبعد نجاته من مذبحة “فخ” على يد العباسيين، فر إدريس بن عبد الله، أحد أحفاد الحسن بن علي، إلى أقصى الغرب الإسلامي، حيث استقر في منطقة وليلي، ليجد في قبائل الأمازيغ حضنًا سياسيًا واجتماعيًا آمنًا، وبيئة متعطشة للاستقلال عن الخلافة الشرقية.

تأسيس أول دولة إسلامية مغربية

بدعم من قبائل أوربة الأمازيغية، أسس إدريس الأول أول دولة إسلامية مغربية مستقلة عن الخلافة العباسية. وبعد وفاته، واصل ابنه إدريس الثاني بناء الدولة، وجعل من مدينة فاس عاصمة سياسية وروحية، سرعان ما تحولت إلى مركز إشعاع علمي وثقافي في الغرب الإسلامي. وقد شكّل ترسيخ المذهب المالكي في هذه المرحلة لبنة أساسية في تشكيل الهوية الدينية والسياسية للمغرب.


2. المرابطون والموحدون: التوسع والتوحد الحضاري

المرابطون: الصحراء تولد إمبراطورية

ظهر المرابطون في القرن الحادي عشر، من صحراء المغرب، بقيادة عبد الله بن ياسين ثم يوسف بن تاشفين، حاملين مشروعًا دينيًا إصلاحيًا يهدف إلى نشر المذهب المالكي الصارم ومحاربة مظاهر الانحراف العقدي. أسسوا مدينة مراكش سنة 1062، وجعلوا منها مركزًا سياسيًا وتجاريًا مهمًا يربط بين إفريقيا جنوب الصحراء والأندلس شمالًا.

بلغت الدولة المرابطية أوج قوتها مع ضم الأندلس، حيث أوقفوا زحف الممالك المسيحية، مؤسسين لإمبراطورية تمتد من نهر السنغال إلى وادي الحجارة في إسبانيا.

الموحدون: ثورة فكرية وإمبراطورية مترامية

مع بداية القرن الثاني عشر، ظهر الموحدون بقيادة ابن تومرت، الذي دعا إلى إصلاح العقيدة الإسلامية وتوحيد صفوف المسلمين تحت راية “التوحيد الخالص”. خلفه عبد المؤمن بن علي، الذي وسّع الدولة حتى شملت ليبيا شرقًا والأندلس غربًا.

شهدت الدولة الموحدية عصرًا ذهبيًا، لا سيما في مجالات العمارة والعلوم والفلسفة، وكانت مدن مثل مراكش وفاس نموذجًا لحيوية الحضارة الإسلامية الغربية، في زمن برز فيه فلاسفة مثل ابن رشد وابن طفيل، وعلماء مثل الإدريسي وابن البناء.


3. المرينيون والوطن في مرحلة التحديات الخارجية

المرينيون: محاولة إعادة البناء

بعد أفول نجم الموحدين، صعد المرينيون إلى الحكم في القرن الثالث عشر، ليعيدوا هيكلة الدولة. نقلوا العاصمة مجددًا إلى فاس، وأسسوا مدارس علمية لا تزال قائمة مثل المدرسة البوعنانية. ومع ذلك، اصطدموا بتحديات داخلية وخارجية، من بينها تصاعد الضغط الأوروبي على السواحل المغربية، ما جعل توازن الدولة هشًا في كثير من الأحيان.

الوطاسيون: الهشاشة أمام الأطماع الأجنبية

في القرن الخامس عشر، خلف الوطاسيون المرينيين، لكن سلطتهم كانت ضعيفة، واقتصرت على مناطق محدودة. شهد المغرب في عهدهم تدخلات أجنبية متزايدة، خصوصًا من قبل البرتغاليين والإسبان، الذين احتلوا عددًا من المدن الساحلية، في وقت بدأ فيه العثمانيون التمدد في الجهة الشرقية من شمال إفريقيا.


4. السعديون: النصر في وادي المخازن واستعادة السيادة

الظهور من الجنوب والدفاع عن الاستقلال

في مواجهة التدخلات الأجنبية، ظهر السعديون من منطقة درعة، حاملين مشروعا يجمع بين الشرعية الدينية (النسب النبوي) والقدرة العسكرية. وحّدوا المغرب تدريجياً، وقادوا مقاومة شرسة ضد التوسع البرتغالي.

معركة وادي المخازن (1578): نقطة تحول حاسمة

في سنة 1578، سُجّل أحد أعظم الانتصارات في التاريخ المغربي، حين هزم الجيش السعدي بقيادة السلطان عبد الملك القوات البرتغالية المدعومة بحلف أوروبي واسع، في معركة وادي المخازن أو “معركة الملوك الثلاثة”. هذا النصر أنقذ المغرب من مصير مشابه لدول شمال إفريقيا الأخرى التي خضعت للعثمانيين أو الأوروبيين.

في عهد السلطان أحمد المنصور الذهبي، بلغت الدولة السعدية قمة مجدها، بتوسيع نفوذها جنوبًا نحو تمبكتو، وتعزيز علاقاتها الدبلوماسية مع القوى الكبرى آنذاك كإنجلترا والعثمانيين.


5. العلويون: قرون من الاستمرارية والتحديث السياسي

الشرعية الشريفة وبناء الدولة الحديثة

منذ منتصف القرن السابع عشر، استقرت السلالة العلوية في سدة الحكم، ونجحت في الحفاظ على وحدة البلاد وسط فوضى قبلية وظروف إقليمية مضطربة. استمدت شرعيتها من النسب النبوي، ومن قدرتها على التوفيق بين المكونات الأمازيغية والعربية والإسلامية.

من مواجهة الاستعمار إلى بناء الدولة الوطنية

تميز العلويون بسياسات تجمع بين الحزم والتفاوض، كما هو الحال مع السلطان مولاي إسماعيل، الذي أعاد فرض النظام في الداخل وبنى واحدة من أقوى الجيوش النظامية في تاريخ المغرب.

وفي القرن العشرين، قاد الملك محمد الخامس معركة الاستقلال، ثم أطلق الملك الحسن الثاني مشروع الدولة الحديثة، مع تأسيس أول دستور مغربي سنة 1962، وترسيخ النظام الملكي الدستوري، رغم التحديات الداخلية والمناخ الإقليمي المعقد.

المغرب في عهد محمد السادس: التحديث مع الحفاظ على الثوابت

منذ اعتلاء الملك محمد السادس العرش عام 1999، دخل المغرب مرحلة جديدة قوامها التنمية الاقتصادية، والإصلاحات السياسية والاجتماعية، والانفتاح الدبلوماسي، لا سيما في العمق الإفريقي. يشهد المغرب اليوم تحولًا عميقًا، قائمًا على التوازن بين الأصالة والتحديث، بين الإسلام الوسطي والديمقراطية، بين التعدد الثقافي والوحدة الوطنية.


يشكل تاريخ المغرب السياسي سلسلة من التراكمات الحضارية والدينية والثقافية التي صنعت دولة ذات خصوصية نادرة في العالم العربي والإسلامي. فمنذ إدريس الأول إلى محمد السادس، بقيت الدولة المغربية محافظة على جوهرها، مجددة باستمرار في شكلها ومؤسساتها، قادرة على التأقلم مع السياقات المتغيرة، دون التفريط في ثوابتها.

إنه تاريخٌ من الصمود والتجدد، يجمع بين الإسلام والتعددية، بين الانتماء الإفريقي والجوار المتوسطي، بين سلطة مركزية شرعية ومجتمع متنوع ومتفاعل.

زر الذهاب إلى الأعلى