الصحة النفسية بعد الجائحة: هل تغيرنا؟

قراءة علمية ونفسية في ملامح ما بعد كوفيد-19
في خضم جائحة كوفيد-19 التي اجتاحت العالم منذ أواخر عام 2019، وامتدت آثارها الصحية والاقتصادية والاجتماعية لعدة أعوام، لم يكن الخطر الوحيد هو العدوى الفيروسية، بل ظهرت جائحة موازية أكثر خفاءً: أزمة نفسية عالمية غير مسبوقة.
القلق، العزلة، الحزن، وفقدان الإحساس بالأمان، كلها مشاعر تداخلت مع الحياة اليومية للملايين. واليوم، بعد مرور عدة سنوات على بدء الأزمة، يتجدد التساؤل: هل تعافت الصحة النفسية؟ أم أن آثار الصدمة لا تزال قائمة في أعماق الأفراد والمجتمعات؟
ملامح الأزمة النفسية خلال الجائحة
القلق الجماعي والخوف من المجهول
أشارت دراسة منشورة في مجلة The Lancet Psychiatry عام 2021 إلى أن معدلات القلق والاكتئاب ارتفعت عالميًا بما لا يقل عن 25 بالمئة خلال العام الأول من الجائحة.
الخوف من العدوى، فقدان الأحبة، وضبابية المستقبل كانت عوامل رئيسية في تصاعد الضغط النفسي على الأفراد، بغض النظر عن أعمارهم أو مواقعهم الجغرافية.
الوحدة والعزلة الاجتماعية
إجراءات الإغلاق والتباعد الاجتماعي أفرزت واقعًا جديدًا من العزلة، خصوصًا لدى الفئات الهشة نفسيًا كالمسنين والأطفال.
أظهرت دراسة من جامعة كاليفورنيا أن العزلة الطويلة ساهمت في تدهور الوظائف الإدراكية لدى كبار السن، وارتفاع معدلات القلق والتوتر لدى المراهقين.
الحزن غير المكتمل
في ظل القيود الصحية، توفي الملايين دون طقوس وداع تقليدية، ما أدى إلى حالات حزن مزمن وتأخر في معالجة الفقد.
هذا “الحزن غير المكتمل” أصبح مصنفًا ضمن الاضطرابات النفسية المعقدة، بحسب تصنيف منظمة الصحة العالمية لعام 2022.
هل تعافت الصحة النفسية بعد الجائحة؟
التعافي ليس خطًا مستقيمًا
بعكس الأمراض العضوية، لا يحدث التعافي النفسي بطريقة خطية أو موحدة.
تشير مراجعة علمية نشرتها مجلة British Medical Journal إلى أن أعراض ما بعد الصدمة الجماعية قد تظهر حتى بعد انتهاء الأزمة الفعلية.
مفاهيم جديدة: النمو بعد الصدمة
رغم كل التحديات، برزت مفاهيم إيجابية مثل “النمو بعد الصدمة”، وهو مصطلح يشير إلى إمكانية تطور الإنسان نفسيًا وروحيًا بعد مروره بتجربة قاسية، شرط أن يُمنح الدعم والتوجيه الصحيحين.
الفئات الأكثر تأثرًا
الأطفال والمراهقون
فقدان الحياة المدرسية، وتقلص التفاعل الاجتماعي، ألقى بثقله على الصحة النفسية لدى الأطفال.
وفقًا لتقارير اليونيسف، يعاني واحد من كل خمسة أطفال في العالم من اضطراب نفسي نتيجة آثار الجائحة.
العاملون في المجال الصحي
أطباء وممرضون واجهوا مستويات غير مسبوقة من الإرهاق، مشاعر الذنب، والتعرض المستمر للفقد.
أفادت دراسة من جامعة هارفارد أن أكثر من 40 بالمئة من العاملين في الصفوف الأمامية للجائحة أظهروا أعراض الاحتراق النفسي.
النساء والحوامل
تحملت النساء عبئًا مضاعفًا خلال الأزمة، ما بين رعاية الأسرة، والعمل عن بُعد، ومتابعة تعليم الأطفال، إضافة إلى التحديات الصحية والنفسية الخاصة بالنساء الحوامل.
إيجابيات غير متوقعة
تزايد الوعي بأهمية الصحة النفسية
تحولت الصحة النفسية من موضوع هامشي إلى محور اهتمام عالمي، وبدأت المجتمعات تُعيد النظر في دور الأخصائي النفسي داخل المدارس، أماكن العمل، والمراكز الصحية.
الانتقال إلى الدعم النفسي الرقمي
أدى التحول الرقمي إلى تسريع انتشار خدمات الدعم النفسي عبر الإنترنت، مما سهّل الوصول إلى المساعدة النفسية حتى في المناطق النائية.
مراجعة نمط الحياة
بدأ الأفراد يعيدون تقييم أولوياتهم الشخصية، ويركزون على جودة الحياة، والتوازن النفسي، والعلاقات الاجتماعية كعناصر أساسية لا غنى عنها.
استشراف المستقبل
الصحة النفسية ما بعد الجائحة تحتاج إلى رؤية شمولية واستراتيجيات طويلة الأمد، من بينها:
- إدماج الدعم النفسي في السياسات التعليمية والصحية.
- نشر الثقافة النفسية على مستوى المدارس والإعلام.
- تطوير أدوات رقمية آمنة ومجانية للرعاية النفسية.
- تدريب الكوادر المختصة في الصحة النفسية المجتمعية.
فإذا كانت الجائحة قد كشفت هشاشة النفس البشرية أمام الأزمات، فإنها أيضًا منحت فرصة نادرة لإعادة بناء هذه النفس على أسس أكثر توازنًا ومرونة.
الأسئلة الشائعة (FAQ)
هل زادت الأمراض النفسية بعد الجائحة؟
نعم، شهدت نسب اضطرابات مثل الاكتئاب والقلق والتوتر ارتفاعًا ملحوظًا بحسب تقارير منظمة الصحة العالمية ومراكز الأبحاث النفسية العالمية.
هل يمكن العودة إلى “الوضع الطبيعي” نفسيًا؟
يمكن للأفراد والمجتمعات التعافي تدريجيًا، لكن التعافي الكامل يتطلب تدخلات مهنية ودعمًا اجتماعيًا طويل الأمد.
ما دور الأسرة في دعم الصحة النفسية بعد الجائحة؟
الأسرة هي خط الدعم الأول من خلال الاستماع، توفير بيئة آمنة، وتعزيز روابط الثقة بين أفرادها.
هل هناك فئات تحتاج إلى دعم نفسي أكبر؟
نعم، مثل الأطفال والمراهقين، كبار السن، النساء، والعاملين في القطاع الصحي، حيث تعرضوا لضغوط استثنائية خلال الجائحة.