مفارقة التعليم بين الجودة والمساواة
في قلب كل مجتمع يسعى إلى النهوض، تكمن مسألة التعليم كأحد الأعمدة المؤسسة للمستقبل. غير أن السؤال الذي يفرض نفسه بإلحاح في دول كثيرة، وخاصة في العالم العربي، هو: أي طريق يجب سلكه لضمان تعليم فعّال وعادل؟ هل تُمثل المدارس الخاصة ملاذًا للنجاح الأكاديمي، أم أنها تعمّق الفجوة الطبقية؟ وهل ما تزال المدرسة العمومية قادرة على أداء رسالتها التربوية في ظل التحولات الاجتماعية والاقتصادية المتسارعة؟
ليست هذه مجرد تساؤلات عابرة، بل تعكس جدلًا عميقًا يرتبط بجوهر العقد الاجتماعي وبحدود الدولة في ضمان الحق في تعليم متكافئ وذي جودة.
التفاوت البنيوي بين المنظومتين
المدارس العمومية: تآكل الدور رغم الإطار الوطني
منذ الاستقلال في عدة دول عربية، كانت المدرسة العمومية هي الحاضنة الرئيسية لبناء النخب الثقافية والإدارية. غير أن العقود الأخيرة شهدت تراجعًا لافتًا في أدائها نتيجة لاختلالات هيكلية تشمل ضعف التمويل، اكتظاظ الأقسام، ونقص التأطير التربوي.
وفقًا لتقارير اليونسكو، تعاني المدارس العمومية في العديد من الدول النامية من تدهور في معدلات التعلّم الأساسية، مثل القراءة والحساب، خاصة في المستويات الابتدائية. ورغم محاولات الإصلاح، يظل التطبيق العملي مرتهنًا بإكراهات الواقع الإداري والميزانياتي.
المدارس الخاصة: استجابة انتقائية أم بديل وظيفي؟
مع تصاعد هذا التراجع، برز القطاع الخاص كفاعل موازٍ يقدّم عروضًا تعليمية متعددة، غالبًا بلغة أجنبية وبوسائل تقنية حديثة. هذا النمو السريع، الذي تجاوز في بعض الدول العربية نسبة 30% من التلاميذ في المدن الكبرى، ترافق مع خطاب يربط بين الجودة والانتماء إلى التعليم الخاص.
لكن خبراء كثر، مثل البروفسور “آلان مينيه” المتخصص في سوسيولوجيا التعليم، يحذرون من أن الخصخصة المفرطة تُهدد الوظيفة التكافؤية للمدرسة، وتُحوّل المعرفة إلى سلعة لا يملكها الجميع، مما يُعيد إنتاج الفوارق الاجتماعية بشكل مقنّن.
أبعاد متعددة: بين السياسات العمومية وخيارات الأسر
الاعتبارات الاقتصادية: تعليم مدفوع الثمن
تكلفة التمدرس في المدارس الخاصة أصبحت تثقل كاهل العديد من الأسر، حيث تشير دراسات ميدانية في المغرب وتونس ولبنان إلى أن متوسط الرسوم السنوية يتجاوز دخل الأسرة الدنيا بأكثر من 40%. وهو ما يطرح تساؤلًا عميقًا حول “حق الاختيار” الحقيقي في ظل تفاوت القدرة الشرائية.
الاعتبارات البيداغوجية: منهجيات متباينة
تعتمد المؤسسات الخاصة غالبًا مناهج مزدوجة (وطنية/دولية)، مع تركيز على اللغات الأجنبية والمهارات الرقمية. في المقابل، تبقى المدرسة العمومية أكثر التزامًا بالمقررات الرسمية، ما قد يُنتج فجوة معرفية بين خريجي المنظومتين على مستوى الفرص الجامعية والمهنية.
المدرسة كمؤسسة مواطنية: ما الذي نراهن عليه؟
ليست المدرسة مجرد مكان لتلقي الدروس، بل فضاء لتكوين المواطن وتعزيز الانتماء والهُوية الجماعية. في هذا السياق، يرى بعض الباحثين في علوم التربية أن التوازن بين القطاعين لا يجب أن يقوم على مبدأ التنافس، بل على تكامل الأدوار، مع احتفاظ الدولة بدور مركزي في ضبط الجودة والعدالة التربوية.
تدعو تقارير دولية، مثل تقرير البنك الدولي (2020)، إلى إعادة صياغة العلاقة بين القطاعين من خلال شراكات ذكية، تُوظف إمكانات القطاع الخاص لخدمة أهداف وطنية، دون أن تنزع عن التعليم طابعه العمومي والمشترك.
نحو أفق تعليمي تشاركي وشامل
الصراع بين المدارس الخاصة والعمومية ليس قدَرًا محتومًا، بل نتيجة اختيارات سياسية واقتصادية قابلة لإعادة التوجيه. المستقبل التربوي لا يُبنى على ازدواجية الإقصاء والنخبوية، بل على رؤية متكاملة تُعيد للمدرسة دورها المركزي في بناء الفرد والمجتمع.
الأسئلة التي تُطرح اليوم تتجاوز مجرد “أي مدرسة نختار؟”، لتصل إلى: “أي مجتمع نريد أن نبني؟”، “وأي قيم نغرسها في أبنائنا؟”، و”من يملك حق تحديد مسار المعرفة؟”.
أسئلة متكررة (FAQ)
هل يشترط التفوق الأكاديمي الانتماء إلى مدرسة خاصة؟
ليس بالضرورة. رغم أن بعض المدارس الخاصة تقدّم بيئة تعليمية مريحة، فإن النجاح يعتمد على جودة التعليم والمعلمين، وليس على الرسوم المدفوعة.
ما الذي يمكن فعله لتطوير المدرسة العمومية؟
يتطلب الأمر إرادة سياسية قوية، وتحسين ميزانية التعليم، وتطوير مناهج حديثة تدمج التكنولوجيا واللغات، مع تحسين وضعية الأطر التربوية.
هل التعليم الخاص تهديد أم فرصة؟
يمكن أن يكون فرصة إذا دُمج ضمن منظومة وطنية متكاملة، تحترم معايير الجودة وتُخضع للرقابة، دون أن تُقصي المدرسة العمومية.