خطوات بسيطة لتحسين صحتك النفسية

العقل بين العناية والإهمال
في خضم التسارع التكنولوجي وضغوط الحياة اليومية، لم تعد الصحة النفسية ترفاً أو شأناً فردياً معزولاً، بل غدت عنصراً محورياً في جودة الحياة، والإنتاجية، والتوازن المجتمعي. ورغم تصاعد الاهتمام العالمي بهذا الجانب الحيوي، لا تزال المفاهيم المرتبطة به محاطة بالغموض، أو تختزل في تصورات سطحية، بعيدة عن التعقيد العلمي والإنساني الذي تقتضيه. فهل يمكن حقاً أن تقود خطوات بسيطة إلى تحسين حقيقي ومستدام للصحة النفسية؟ أم أن المسألة أعمق من ذلك بكثير؟ بين العلم والممارسة، تبرز معالم إجابة تتطلب تدقيقاً.
ما المقصود بالصحة النفسية؟
تُعرّف منظمة الصحة العالمية الصحة النفسية بأنها “حالة من العافية التي يَكون فيها الفرد قادراً على إدراك قدراته، والتعامل مع ضغوط الحياة العادية، والعمل بشكل مثمر، والمساهمة في مجتمعه”. هذا التعريف يضع الصحة النفسية في قلب الوجود الإنساني، لا بوصفها غياباً للاضطراب، بل كحالة إيجابية من التكيف والانسجام الذاتي والاجتماعي.
لكن التحدي يكمن في كيفية تحقيق هذه الحالة، خصوصاً في عالم يتزايد فيه الشعور بالوحدة، والقلق، والتوتر، والاحتراق المهني.
خطوات مدروسة لتحسين الصحة النفسية
1. تنظيم الإيقاع اليومي: البساطة المفقودة
تشير أبحاث علم النفس العصبي إلى أن الاستقرار في أنماط النوم والاستيقاظ، وتخصيص أوقات ثابتة للراحة والأنشطة، يساهم في تنظيم إفراز الهرمونات المسؤولة عن المزاج، مثل السيروتونين والكورتيزول. دراسة نُشرت في The Lancet Psychiatry (2018) خلصت إلى أن اضطراب الإيقاع اليومي يرتبط بزيادة معدلات الاكتئاب والاضطراب ثنائي القطب.
إن إنشاء روتين شخصي منتظم — حتى لو اقتصر على وقت النوم، وتحديد أوقات للهواتف الذكية — يعدّ من أهم الخطوات القابلة للتنفيذ لتحسين الصحة النفسية.
2. الحركة البدنية: دواء طبيعي للدماغ
لا تتعلق فوائد التمارين الرياضية بالجسد فحسب، بل بالعقل أيضاً. فالرياضة تُحفّز إنتاج “BDNF” (عامل التغذية العصبية المشتق من الدماغ)، وهو بروتين يسهم في نمو الخلايا العصبية وتحسين التواصل بينها. وجدت مراجعة شاملة نُشرت في مجلة Frontiers in Psychology أن ممارسة التمارين الهوائية لمدة 30 دقيقة، 3 مرات أسبوعياً، تؤدي إلى تحسن ملحوظ في مؤشرات الاكتئاب والقلق خلال 12 أسبوعاً فقط.
ومن اللافت أن الفعالية كانت متقاربة بين الرياضة المعتدلة والمكثفة، ما يفتح المجال أمام معظم الأشخاص لاعتماد هذا السلوك دون الحاجة إلى تجهيزات أو جهد استثنائي.
3. الانخراط الاجتماعي: مضاد للانعزال العصبي
يرتبط العزلة المزمنة بارتفاع مستويات الالتهاب في الجسم والدماغ، وقد وُصفت من قبل البروفيسور جون كاسيوبو، أحد رواد علم الأعصاب الاجتماعي، بأنها “مكافئ نفسي للتجويع”. بل وأظهرت دراسات أن غياب الدعم الاجتماعي يزيد من مخاطر الوفاة المبكرة بنسبة تصل إلى 29% (Holt-Lunstad et al., PLOS Medicine, 2010).
تُعدّ أبسط أشكال التفاعل — كالتحدث مع الجيران، أو المشاركة في نشاط تطوعي محلي — ذات أثر واضح في تعزيز الشعور بالانتماء وتقليل أعراض القلق والاكتئاب.
4. تدريب الذهن: تقنية ذات جذور ثقافية وعلمية
الـMindfulness أو “الانتباه الكامل للحظة الحاضرة” لم يعد مفهوماً روحياً مقتصراً على التقاليد الشرقية، بل أصبح موضوعاً لآلاف الدراسات في علم النفس المعرفي. يُظهر تصوير الدماغ الوظيفي أن ممارسة التأمل الذهني تعزز نشاط القشرة الجبهية المسؤولة عن التنظيم العاطفي، وتُقلّل من تفاعل اللوزة الدماغية المرتبطة بالخوف والتوتر.
وبحسب مراجعة علمية في JAMA Internal Medicine (2014)، فإن ممارسات الذهن تُخفض أعراض القلق والاكتئاب بشكل مماثل للأدوية الموصوفة، عندما تُمارس بانتظام.
5. الحد من التعرّض الرقمي: استعادة الصمت الداخلي
أصبح التعرّض المفرط للأخبار السلبية ووسائل التواصل مصدراً رئيسياً للإرهاق النفسي. دراسة أجرتها جامعة بنسلفانيا (2018) بيّنت أن خفض استخدام المنصات الرقمية إلى أقل من 30 دقيقة يومياً يحسّن مؤشرات الرضا عن الحياة خلال أسبوعين فقط. إن قطع الاتصال المؤقت، وممارسة “الصيام الرقمي”، يسمح بإعادة ضبط الجهاز العصبي والعودة إلى نمط تفاعلي أكثر وعيًا.
الصحة النفسية بين الفرد والمجتمع
رغم التركيز على السلوكيات الفردية، لا يمكن فصل الصحة النفسية عن البيئة الثقافية، والاقتصادية، والسياسية. فمفهوم “الرفاه النفسي” يرتبط أيضاً بالشعور بالعدالة، والاعتراف الاجتماعي، وإمكانية التعبير عن الذات. يرى الفيلسوف الفرنسي ميشيل فوكو أن الصحة النفسية لا تُفهم فقط في ضوء الطب النفسي، بل في سياق “أنظمة الخطاب والسيطرة” التي تصوغ نظرتنا إلى الطبيعي والمضطرب.
وبالتالي، فإن أي خطوات لتحسين الصحة النفسية — مهما كانت بسيطة — لا تُثمر بالكامل ما لم تُدعَم بسياسات عامة تعزز التماسك الاجتماعي وتكافؤ الفرص والعدالة في الوصول إلى خدمات الرعاية.
آفاق مفتوحة: ما بعد “النصائح السريعة”
قد تبدو الخطوات المذكورة بسيطة، لكن فعاليتها تكمن في تكرارها، وارتباطها بسياق حياة متوازن ومعنى شخصي. يبقى السؤال مفتوحاً: كيف يمكن ترجمة هذا الوعي الفردي إلى تحول جماعي في نمط الحياة والحس المجتمعي؟ وهل يمكن أن تُصبح العناية النفسية جزءاً من الثقافة اليومية كما هو شأن النظافة الجسدية؟
في ظل الأزمات العالمية المتلاحقة، من تغير مناخي إلى صراعات سياسية، تبرز الحاجة إلى إعادة تعريف مفهوم “الوقاية”، ليشمل صحة العقل والوجدان، لا فقط الجسد. إنها مسؤولية تتجاوز الفرد لتشمل مؤسسات التعليم، والاقتصاد، والإعلام، والسياسة.