الفضاء والأجرام السماويةالكواكب والنجوم

عطارد: الكوكب الأقرب إلى الشمس… أسرار كوكب صغير بحجم هائل من الغموض

✦ عندما يقترب العقل من الشمس

على بعد 58 مليون كيلومتر فقط من نجمنا المركزي، تدور صخرة ملتهبة في مدار مضغوط وسريع، تخفي خلف سطحها المُحمّى أسرارًا كونية عمرها مليارات السنين. إنه عطارد، الكوكب الأقرب إلى الشمس والأكثر تجاهلًا نسبيًا في خريطة الاهتمام الفضائي الجماهيري. ورغم صغر حجمه الذي لا يتجاوز 38% من حجم الأرض، إلا أن هذا الجار الداخلي يستحق تمعنًا أعمق، فهو مرآة لماضٍ شمسي سحيق، ومختبر طبيعي لفهم القوى الفيزيائية التي شكلت النظام الشمسي كما نعرفه اليوم.


✦ عطارد في لمحة: كوكب المتناقضات

عطارد هو أصغر كواكب المجموعة الشمسية وأقربها إلى الشمس، لكنه في الوقت ذاته أحد أكثرها كثافة بعد الأرض، ما يدل على نواة معدنية ضخمة. يدور حول الشمس كل 88 يومًا أرضيًا، لكنه لا يدور حول محوره إلا مرة كل 59 يومًا، ما يجعل “اليوم” على سطحه أطول من “سنتين” من سنواته المدارية.

  • القطر: 4,879 كيلومترًا
  • متوسط درجة الحرارة: بين -180° ليلاً و +430° نهارًا
  • لا يملك غلافًا جويًا حقيقيًا، بل فقط طبقة رقيقة من الذرات المتناثرة تُعرف باسم “الإكسوسفير”

يشير تقرير صادر عن وكالة الفضاء الأوروبية (ESA, 2023) إلى أن سطح عطارد مليء بالفوهات الصدمية، تمامًا كما هو حال القمر، مما يدل على قلة النشاط الجيولوجي الحديث فيه.


✦ من مارينر 10 إلى بيبي كولومبو: استكشاف مستمر

في عام 1974، كانت مركبة “مارينر 10” التابعة لناسا أول مسبار يزور عطارد. وقدمت لنا صورًا مذهلة كشفت سطحًا شبيهًا بالقمر مليئًا بالفوهات. لكن بقيت العديد من الأسئلة دون إجابة.

ثم جاءت “مسنجر” (MESSENGER)، التي دارت حول عطارد بين عامي 2011 و2015، لتحدث ثورة في معرفتنا حول هذا الكوكب. أبرز اكتشافاتها:

  • وجود جليد مائي في الفوهات القطبية الدائمة الظل
  • تكوين نواة ضخمة تحتل أكثر من 85% من نصف قطر الكوكب
  • آثار لمجال مغناطيسي ضعيف لكن معقد

حالياً، تقوم بعثة “بيبي كولومبو” الأوروبية اليابانية، التي انطلقت سنة 2018، برحلتها إلى عطارد، ومن المتوقع أن تدخل مداره في عام 2026. ووفق بيان مشترك لـوكالة الفضاء الأوروبية ووكالة الفضاء اليابانية (ESA & JAXA, 2024)، فإن هدف البعثة يتمثل في دراسة الغلاف الخارجي للكوكب، تركيب سطحه، ونشاطه المغناطيسي بشكل غير مسبوق.


✦ بيئة لا ترحم: حرارة، إشعاع وصمت مطبق

يمثل عطارد بيئة قاسية للغاية لأي شكل من أشكال الحياة المعروفة. فعدم وجود غلاف جوي حقيقي يجعله عاجزًا عن الاحتفاظ بالحرارة أو حمايته من الإشعاعات الشمسية.

وفقًا لدراسة نُشرت في مجلة Nature Astronomy (Vol. 7, 2022)، فإن مستوى الإشعاع فوق سطح عطارد أعلى بحوالي 250 مرة من الحد المسموح به للبشر، كما أن الفروقات الهائلة في درجات الحرارة بين الليل والنهار تجعل من سطحه مكانًا مليئًا بالإجهادات الحرارية التي تشكل شروخًا هائلة عبر الزمن.


✦ نواة عطارد الغامضة: لغز التكوين

ما يثير دهشة العلماء هو أن نواة عطارد تشكل ما بين 70 و85% من حجمه، وهي نسبة غير معتادة مقارنة ببقية الكواكب. يعتقد بعض العلماء، ومنهم الدكتور شون سليمان من جامعة كولومبيا (2023)، أن عطارد ربما فقد قشرته الخارجية نتيجة اصطدام عملاق في مرحلة مبكرة من عمر النظام الشمسي، وهو ما يفسر تركيبه الغني بالحديد.

لكن نظرية أخرى تقترح أن عطارد تشكل في منطقة أكثر كثافة بالمعادن، أو أنه كان نتاجًا لتطور حراري داخلي خاص أدى إلى فصل مواده الثقيلة عن الخفيفة.


✦ جليد في قلب الجحيم: اكتشافات غير متوقعة

من المفارقات أن تجد الجليد على كوكب تصل حرارة سطحه إلى 430 درجة مئوية. لكن بالفعل، أكدت بعثة “مسنجر” وجود جليد مائي في حفر مظلمة بالقرب من القطبين، حيث لا تصل أشعة الشمس مطلقًا.

ويُعتقد أن مصدر هذا الجليد قد يكون إما اصطدامات نيزكية جلبت الماء، أو إطلاق بخار الماء من داخل الكوكب في مراحل مبكرة، ثم ترسّبه في مناطق الظل الدائم.


✦ لماذا ندرس عطارد؟

قد يتساءل القارئ: ما الفائدة من دراسة كوكب لا يمكن العيش عليه؟ الجواب يكمن في أن عطارد هو سجل محفوظ للمراحل الأولى من ولادة النظام الشمسي. فهو لم يخضع لنفس العمليات الجيولوجية والطقسية التي غيّرت الكواكب الأخرى، مما يجعله نموذجًا بدائيًا لفهم أصل الكواكب الصخرية مثل الأرض والزهرة والمريخ.

إضافة إلى ذلك، فهم التركيب الداخلي لعطارد يساعد العلماء على تحسين النماذج الفيزيائية حول الديناميكا الحرارية للكواكب الداخلية.


✦ مستقبل البحث والاستكشاف

مع اقتراب وصول بعثة “بيبي كولومبو” إلى مدار عطارد، من المتوقع أن نشهد تقدمًا كبيرًا في معرفتنا بهذا الكوكب خلال العقد المقبل. وستكون هذه البعثة أول من يحمل جهاز رادار استكشافي لدراسة بنية السطح الداخلية، بالإضافة إلى التحليل الطيفي لقياس توزيع العناصر.

وإذا نجحت المهمة، فقد تُمهد الطريق لاستخدام عطارد كمختبر طبيعي لفهم سلوك الكواكب القريبة من نجومها في أنظمة شمسية أخرى، والتي تُعرف بـ”الكواكب الشبيهة بعطارد” (Mercury-like exoplanets).


✦ بين وهج الشمس وسكون الكون

عطارد ليس مجرد صخرة تحترق تحت أشعة الشمس، بل هو قصة معقدة من التكوين الكوني، والسكون الجيولوجي، والإشعاع المتوحش. إنه مفتاح صغير قد يفتح أبوابًا لفهم أعمق لنشأة الأرض وما بعدها.

في عالم يتسارع فيه السباق الفضائي وتزداد فيه أسئلة الوجود، يبقى عطارد تذكيرًا بأن أبسط الكواكب حجمًا قد يحمل أضخم الأسرار.

زر الذهاب إلى الأعلى