لماذا لا يمكننا العطس أثناء النوم؟

رؤية علمية في التفاعلات العصبية بين النوم والانعكاسات الدفاعية للجسم


✦ من سؤال بسيط إلى فرضية عصبية معقدة

تُعدّ بعض الظواهر الجسدية اليومية مألوفة لدرجة أننا لا نكاد نلتفت إلى غرابتها الفسيولوجية، إلا حين نتأملها في سياقها العصبي. “لماذا لا نعطس ونحن نائمون؟” هو أحد هذه الأسئلة التي تحيلنا إلى تقاطعات دقيقة بين النوم، والدماغ، ووظائف الدفاع الذاتي لدى الإنسان. وعلى عكس ما قد يُفترض، فإن غياب العطس أثناء النوم ليس نتيجة للراحة المطلقة، بل لآليات عصبية مُحكمة التنظيم. هذا المقال يسبر أغوار هذه الظاهرة، اعتمادًا على أحدث الدراسات في علوم الأعصاب والنوم.


✦ أولًا: تعريف العطس من منظور فسيولوجي

العطس هو فعل انعكاسي لا إرادي ينشأ نتيجة استثارة النهايات العصبية في الأغشية المخاطية للأنف عند تعرضها لمهيّجات مثل الغبار، حبوب اللقاح، أو المواد الكيميائية.
تبدأ الاستجابة العصبية من الأنف باتجاه مركز محدد في جذع الدماغ يعرف بـمركز العطس، والذي يرسل إشارات متتابعة إلى عضلات الصدر والحجاب الحاجز والحلق، محدثًا انقباضًا قويًا يدفع الهواء بسرعة هائلة (تصل في بعض الدراسات إلى أكثر من 150 كلم/ساعة)، بهدف طرد العناصر الغريبة من الجهاز التنفسي العلوي.

🧠 المصدر: تقرير منشور في مجلة Brain Research Bulletin – السنة 2022، يؤكد أن العطس يتطلب تنسيقًا عصبيًا وعضليًا دقيقًا بين عدة مناطق دماغية، بما في ذلك النخاع المستطيل.


✦ ثانيًا: النوم كحالة عصبية غير خاملة

يُقسم النوم إلى مرحلتين أساسيتين:

خلال هذه المراحل، يقوم الدماغ بإعادة توزيع موارده العصبية بما يتماشى مع الأولويات البيولوجية. وقد ثبت أن المراكز المسؤولة عن الانعكاسات الدفاعية مثل العطس يتم تثبيطها مؤقتًا، وذلك ضمن آلية تُعرف علميًا بـالشلل النومي الفسيولوجي.

🔎 وفق دراسة صادرة عن جامعة ستانفورد – مركز أبحاث النوم، فإن نشاط مركز العطس خلال مرحلة REM يكون شبه معدوم.


✦ ثالثًا: غياب العطس أثناء النوم – تفسير علمي مفصل

يمكن تلخيص الأسباب العصبية لغياب العطس أثناء النوم في النقاط التالية:

1. انخفاض استثارة النهايات العصبية الأنفية

أثناء النوم، تتراجع حساسية الجسم للمثيرات الخارجية، ولا يستجيب إلا للمحفزات القوية.

2. تثبيط مركز العطس في جذع الدماغ

خلال مراحل النوم العميق، يتم كبح النشاط الكهربائي في مراكز الانعكاسات، بما فيها مركز العطس.

3. شلل العضلات الإرادية

العطس يتطلب تفعيل عضلات الوجه والصدر والبطن، والتي تكون مشلولة خلال النوم الحالم.

4. منع الاستجابة الانعكاسية دون إيقاظ

حتى في حال وجود محفز قوي، فإن الجسم يميل إلى “إيقاظ” الشخص أولًا قبل تمكينه من تنفيذ العطسة، وهو ما يفسر الشعور بالرغبة في العطس فور الاستيقاظ أحيانًا.


✦ رابعًا: استجابات الجسم الأخرى خلال النوم – دراسة مقارنة

🧬 دراسة منشورة في مجلة Nature Neuroscience تشير إلى أن الدماغ البشري لا يتخلى عن وظائف الحماية، بل يعيد توزيعها خلال النوم بما يتناسب مع درجة التهديد.


✦ خامسًا: أهمية فهم هذه الظاهرة في التطبيقات الطبية

▸ تشخيص اضطرابات النوم

يسهم فهم تعطيل ردود الفعل الدفاعية في تفسير بعض حالات انقطاع النفس أو متلازمة شلل النوم.

▸ دعم البحوث العصبية

يساعد في تطوير أدوات فحص لسلامة جذع الدماغ ووظائفه التلقائية.

▸ تحسين بيئة النوم

يدفعنا هذا الفهم إلى تحسين ظروف النوم، خاصة في البيئات المعرضة لمهيجات تنفسية (كالأدخنة أو الروائح الصناعية).


✦ جسدك يحميك… ولكن بعقلانية أثناء النوم

إن عدم قدرتنا على العطس أثناء النوم لا يدل على قصور في وظائف الجسم، بل على درجة عالية من التنظيم العصبي الذي يوازن بين الراحة البيولوجية وآليات الحماية. فالجسم لا يغفل، بل يتصرف وفق مبدأ التكيف الأمثل. وعليه، فإن ما يبدو ظاهرة هامشية هو في الحقيقة مرآة تعكس عبقرية النظام العصبي البشري.

Exit mobile version