سؤال غريب وإجابة أغرب

هل يمكن أن يعيش الإنسان دون حاسة الشم؟

في خضم الحواس الخمس التي يتكئ عليها الإنسان لفهم العالم والتفاعل معه، تبدو حاسة الشم في مرتبة أدنى من البصر أو السمع من حيث التقدير والاهتمام. ومع ذلك، فإن فقدان هذه الحاسة – والمعروف طبياً بـ”الأنوسميا” – يفتح الباب لتساؤلات علمية وثقافية عميقة: هل الشم ضرورة حيوية للبقاء؟ ما الذي نخسره – بيولوجياً ونفسياً – عندما نفقده؟ وهل يمكن لحياة الإنسان أن تظل “كاملة” في غيابه؟ تساؤلات تستدعي تفكيكًا دقيقًا لأدوار الشم في جسم الإنسان ومكانته في الذاكرة، التغذية، والمجتمع.


الشم: وظيفة بيولوجية معقدة

ما هي حاسة الشم وكيف تعمل؟

تبدأ عملية الشم عندما ترتبط الجزيئات الكيميائية المحمولة في الهواء بمستقبلات متخصصة داخل التجويف الأنفي، حيث يتم تحويل هذه الإشارات الكيميائية إلى نبضات كهربائية تُنقل إلى البصلة الشمية في الدماغ، ومنها إلى مراكز معرفية وعاطفية متقدمة كالقشرة الشمية واللوزة الدماغية.

تشير الأبحاث إلى أن الإنسان قادر على التمييز بين أكثر من تريليون رائحة مختلفة، وفق دراسة نُشرت في Science (2014). وهذا يكشف عن مدى تعقيد وثراء هذه الحاسة، على عكس ما يُعتقد عادة بأنها “حاسة بدائية”.


هل يمكن الاستغناء عن الشم بيولوجيًا؟

التأثيرات الصحية المباشرة لفقدان الشم

من منظور بيولوجي، الإنسان قادر على الاستمرار في الحياة دون حاسة الشم، لكنها ليست حياة مكتملة الوظائف. فقدان الشم لا يؤثر فقط على القدرة على تذوق الطعام – بما أن 80% من التذوق يعتمد على الشم – بل يعرّض الشخص لمخاطر حقيقية، مثل العجز عن استشعار الغازات السامة أو الطعام الفاسد أو حتى دخان الحريق.

تُظهر دراسات سريرية أن الأشخاص المصابين بفقدان الشم يعانون من نقص في الشهية، سوء تغذية، وفقدان الوزن، إلى جانب أعراض نفسية تشمل الاكتئاب والعزلة الاجتماعية.


الشم والذاكرة: رابط يتجاوز الفسيولوجيا

الشم كحامل للذاكرة والانفعال

تُظهر دراسات علم الأعصاب أن الروائح ترتبط ارتباطاً مباشراً بالذاكرة العاطفية. ويرجع ذلك إلى كون المسار العصبي لحاسة الشم يمر من خلال الجهاز الحوفي، مركز المشاعر في الدماغ، دون المرور بمحطة التصفية المعروفة بالمهاد (Thalamus).

هذا ما يفسر ما يُعرف بـ”تأثير بروست”، نسبة إلى الكاتب الفرنسي مارسيل بروست، حيث يمكن لرائحة معينة أن تستحضر ذكريات بعيدة دفينة بدقة وانفعال شديدين.


الشم في التاريخ والثقافة

من البخور إلى العطور: دلالات حضارية

عبر التاريخ، لعبت الروائح دوراً مركزياً في الطقوس الدينية، والممارسات العلاجية، والتواصل الاجتماعي. استخدمت الحضارات القديمة كالمصرية والصينية البخور والعطور ليس فقط لأغراض جمالية، بل كوسيلة للتقرب من الآلهة أو طرد الأرواح الشريرة.

وفي الثقافة العربية، لطالما ارتبطت حاسة الشم بالكرم والجمال والنقاء. فـ”الطيب” ليس مجرد مادة عطرية، بل رمز للقيمة الشخصية والاجتماعية.


أبحاث حديثة: مستقبل الشم الصناعي

من الأنف الإلكتروني إلى استعادة الحاسة

تشهد السنوات الأخيرة تطوراً متسارعاً في مجال “الأنف الإلكتروني”، وهو نظام يعتمد على مستشعرات دقيقة وبرمجيات ذكية لمحاكاة حاسة الشم وتحليل الروائح في مجالات مثل تشخيص الأمراض أو اكتشاف المواد السامة.

في الوقت ذاته، يعمل علماء الأعصاب على تطوير تقنيات استعادة الشم باستخدام التحفيز العصبي أو زراعة مستقبلات شمية اصطناعية، وهي تقنيات لا تزال في بداياتها، لكنها تبشر بإمكانية علاج حالات الأنوسميا المكتسبة.


ما الذي تعنيه “الحياة دون رائحة”؟

فقدان الشم قد لا يوقف عمل القلب أو الرئتين، لكنه يغيّر العلاقة مع الذات والعالم. إن الإنسان، في غياب هذه الحاسة، لا يفقد مجرد أداة حسية، بل ينقطع عن طبقة كاملة من التجربة الحسية التي تشكّل جزءًا من وعيه وذاكرته وهويته.

تبقى الأسئلة مفتوحة: هل يمكن تعويض هذا النقص تكنولوجيًا؟ وهل سينشأ في المستقبل وعي جديد لا يعتمد على الحواس التقليدية؟ وكيف ستؤثر هذه التحولات على مفهومنا للجسد والواقع؟

زر الذهاب إلى الأعلى