لماذا لا يمكننا دغدغة أنفسنا؟

آليات الإدراك العصبي وحدود الوعي الحسي الذاتي

في كلّ مرة يحاول فيها الإنسان دغدغة نفسه، يلاحظ أن التأثير يختلف جذريًا عن عندما يقوم شخص آخر بذلك. قد يشعر بلمسة خفيفة، لكنه لا يضحك أو يرتعش كما يحدث عندما يتعرض للدغدغة من طرف خارجي. هذا التباين المحيّر يثير سؤالًا علميًا عميقًا: لماذا يفشل الدماغ في توليد رد الفعل نفسه تجاه المحفزات الذاتية؟
في هذا المقال، نستعرض بتفصيل علمي مفسّر الآليات العصبية المعقّدة التي تمنع الإنسان من دغدغة نفسه، ونغوص في أسرار الإدراك الحسي، والتمييز بين الذات والغير، والوظائف التنبؤية المذهلة للدماغ البشري.


الدماغ ليس مجرد مستقبل للمحفزات، بل هو منظومة تنبؤية

الفرضية المركزية: التنبؤ العصبي هو مفتاح اللغز

أظهرت دراسات في علوم الأعصاب المعرفية أن الدماغ يعمل وفق نماذج تنبؤية anticipatory models، أي أنه لا ينتظر وصول المعلومات الحسية، بل يتوقعها مسبقًا بناءً على الأوامر الحركية التي يصدرها.
فعندما نهمّ بتحريك يدنا نحو أجسامنا، يُرسل الدماغ نسخة من هذه الأوامر إلى ما يُعرف بـ “النسخة الإفتراضية” أو efference copy. هذه النسخة تتيح للدماغ التنبؤ بما سيشعر به الجسم نتيجة هذا الفعل، ما يضعف من التأثير الحسي الناتج عن الدغدغة الذاتية.

مرجع علمي: دراسة منشورة في Nature Neuroscience (Blakemore et al., 1998) أظهرت أن منطقة المخيخ تلعب دورًا مركزيًا في مقارنة التوقعات الحسية بالمدخلات الحقيقية، مما يثبط الاستجابة الشعورية عند التطابق.


الفرق بين الدغدغة الذاتية والدغدغة الخارجية

الاستجابة الشعورية للدغدغة: تفاعل غير إرادي يفتقر إلى الوعي

الدغدغة الخارجية تفاجئ النظام الحسي، مما يؤدي إلى رد فعل عاطفي غير إرادي (ضحك، تقلصات عضلية، شعور بالدفاع). أما عندما تكون الدغدغة ناتجة عن فعل ذاتي، فإن النظام العصبي لا يتفاجأ، لأن المخ كان “يتوقع” هذا الفعل تمامًا.

لماذا يُعتبر عنصر المفاجأة حاسمًا؟

الدماغ يميز بين المحفزات الناتجة عن الذات وتلك الآتية من الخارج عبر ما يُعرف بـ “التمييز الحسي الذاتي” (self-other sensory discrimination). المحفزات الخارجية تُعالَج على أنها “تهديد محتمل”، وهو ما يفعّل مناطق مثل اللوزة الدماغية، المسؤولة عن المعالجة العاطفية.
أما المحفزات الذاتية، فتمر عبر مصفاة الإدراك التوقعي التي تحدّ من تفاعل هذه المناطق العصبية.


التجارب العلمية تؤكد استحالة دغدغة الذات

تجارب الواقع الافتراضي والروبوتات توضح الفجوة

في تجارب استخدمت أذرع روبوتية مرتبطة بزمن استجابة مؤخر، تبيّن أنه إذا تم تأخير الفعل الصادر عن الشخص، يصبح بإمكانه دغدغة نفسه، لأن التنبؤ العقلي يفشل في مواكبة التأخير، مما يجعل الفعل يبدو “خارجياً”.

دراسة داعمة: أجريت في جامعة University College London، أظهرت أن تأخيرًا بسيطًا قدره 200 ميلي ثانية في استجابة روبوتية يتيح استعادة تأثير الدغدغة على الذات بنسبة كبيرة.


هل لهذا التفاعل العصبي بُعد تطوري؟

الدغدغة كآلية دفاعية

يعتقد بعض العلماء أن الدغدغة تطورت كآلية دفاعية مبكرة ضد الزواحف والحشرات أو حتى الأفراد الآخرين الذين يقتربون من المناطق الحساسة بالجسم. من هنا، يصبح من المنطقي أن الدماغ يفرّق بين اللمسات “الذاتية” واللمسات “المهددة”، لأن التفاعل يجب أن يُفعّل فقط في حال الخطر الخارجي.


آفاق معرفية: ماذا تكشف هذه الظاهرة عن وعينا الذاتي؟

نحو فهم أعمق للإدراك الحسي والذات

القدرة على التمييز بين الأفعال الذاتية والأفعال الخارجية تُعدّ إحدى ركائز الوعي الذاتي. وفهمنا لهذه الظاهرة لا يقتصر على تفسير الدغدغة فقط، بل يمتد إلى تفسير اضطرابات عصبية مثل الفصام، حيث يفقد المريض هذا التمييز، ما يؤدي إلى هلوسات سمعية أو شعور بأن أفكاره “مزروعة من الخارج”.


ظاهرة عدم القدرة على دغدغة الذات ليست مجرد طرافة عصبية، بل نافذة تكشف عن واحدة من أعقد خصائص الدماغ البشري: قدرته التنبؤية وتمييزه بين الذات والغير. هذا التفاعل العصبي العميق يحفظ للإنسان وعيه بجسده، ويضع أسسًا عصبية لسلوكه الاجتماعي وتفاعله مع بيئته.
وربما تكون هذه “اللامبالاة الحسية” أمام الدغدغة الذاتية دليلاً على ذكاء دماغنا أكثر من كونها لغزًا محيرًا.


الأسئلة المتكررة (FAQ)

ما هو السبب الأساسي وراء عدم قدرة الإنسان على دغدغة نفسه؟

السبب يعود إلى قدرة الدماغ على التنبؤ بالمحفزات الناتجة عن أفعاله، مما يُضعف الاستجابة الحسية للدغدغة الذاتية.

هل يمكن لأي شخص أن يتغلب على هذه الآلية العصبية؟

نظريًا، لا. ولكن في تجارب باستخدام تقنيات تأخير استجابة روبوتية، يمكن محاكاة الدغدغة الذاتية وكأنها خارجية، مما يؤدي إلى استجابة شعورية.

ما علاقة الدغدغة بالاضطرابات النفسية؟

في بعض الحالات مثل الفصام، يفقد الدماغ القدرة على التمييز بين المحفزات الذاتية والخارجية، مما يؤدي إلى تداخل في الإدراك الحسي قد يكون مرتبطًا بظواهر مثل الهلوسة.

هل الأطفال يشعرون بنفس التأثير؟

نعم، بل يُعتقد أن الأطفال أكثر حساسية للدغدغة الخارجية، وقد تلعب هذه الظاهرة دورًا في تطور الوعي الحسي والتمييز بين الذات والغير خلال النمو.

Exit mobile version